كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن الواقع التاريخي الإسلامي هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه. هذا وحده هو الواقع التاريخي الإسلامي.. أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام خارجًا على أصوله وموازينه فلا يجوز أن يحسب منه لأنه انحراف عنه.
إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل. فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين. الإسلام هو الأصل والمسلمون فرع عنه ونتاج من نتاجه. ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي.
إلا أن يكون مطابقًا للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام.
إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم- وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة- ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ والأوضاع المتطورة في أنظمتهم هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم وطبقوها على أنفسهم.
فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم.. فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه؛ فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي الإسلامي وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية فليس هذا واقعًا تاريخيًا للإسلام. إنما هو انحراف عن الإسلام!
ولابد من الانتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي. فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية وهي تختلف تمامًا مع سائر النظريات التاريخية الأخرى التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب وتبحث عن تطور النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة! وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة ويؤدي إلى أخطار كثيرة في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي.
وأخيرًا تفصح الآية عن حكمة هذه الإجراءات كلها.. إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل: {ذلك أدنى ألا تعولوا}..
ذلك.. البعد عن نكاح اليتيمات- إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى- ونكاح غيرهن من النساء- مثنى وثلاث ورباع- ونكاح الواحدة فقط- إن خفتم ألا تعدلوا- أو ما ملكت أيمانكم.. {ذلك أدنى ألا تعولوا}.. أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا.
وهكذا يتبين أن البحث عن العدل والقسط هو رائد هذا المنهج وهدف كل جزئية من جزئياته.. والعدل أجدر أن يراعي في المحضن الذي يضم الأسرة. وهي اللبنة الأولى للبناء الاجتماعي كله ونقطة الانطلاق إلى الحياة الاجتماعية العامة وفيه تدرج الأجيال وهي لدنة رخصة قابلة للتكيف فإن لم يقم على العدل والود والسلام فلا عدل ولا ود في المجتمع كله ولا سلام.
ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء- وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن- قبل أن يستكمل الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة. فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا}.
وهذه الآية تنشئ للمرأة حقًا صريحًا وحقًا شخصيًا. في صداقها وتنبئ بما كان واقعًا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في زواج الشغار. وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين. كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار والصداق حقًا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده لتقبضه المرأة فريضة لها وواجبًا لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج {نحلة}- أي هبة خالصة لصاحبتها- وأن يؤديه عن طيب نفس وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها- كله أو بعضه- فهي صاحبة الشأن في هذا؛ تفعله عن طيب نفس وراحة خاطر؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه وأكله حلالًا طيبًا هنيئًا مريئًا. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل والاختيار المطلق والسماحة النابعة من القلب والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك.
وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها وحقها في نفسها وفي مالها وكرامتها ومنزلتها. وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة.
فإذا انتهى من هذا الاستطراد- الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء- عاد إلى أموال اليتامى؛ يفصل في أحكام ردها إليهم بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال.
إن هذا المال ولو أنه مال اليتامى إلا أنه- قبل هذا- مال الجماعة أعطاها الله إياه لتقوم به؛ وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره- بإذن من الجماعة- ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره؛ راشدين في تصريفه وتدبيره- والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار- أما السفهاء من اليتامى ذوي المال الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره فلا يسلم لهم ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه- وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم- إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة.
مع مراعاة درجة القرابة لليتيم تحقيقًا للتكافل العائلي الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى! وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولًا معروفًا}..
ويتبين السفه والرشد- بعد البلوغ- وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة ولا يحتاج إلى تحديد مفهومه بالنصوص. فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة؛ فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ الذي يعبر عنه النص بكلمة: {النكاح} وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا. ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف. فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبًا}..
ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد. كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم بمجرد تبين الرشد- بعد البلوغ- وتسليمها لهم كاملة سالمة والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها- إذا كان الولي غنيًا- والأكل منها في أضيق الحدود- إذا كان الولي محتاجًا- ومع وجوب الإشهاد في محضر التسليم.. وختام الآية: التذكير بشهادة الله وحسابه: {وكفى بالله حسيبًا}..
كل هذا التشديد وكل هذا البيان المفصل وكل هذا التذكير والتحذير.. يشي بما كان سائدًا في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد ومن بيان وتفصيل لا يدع مجالًا للتلاعب عن أي طريق..
وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النفوس والمجتمعات ويثبت معالم الإسلام؛ ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع ويثبت ملامح الإسلام. وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده وشرائعه وقوانينه في ظلال تقوى الله ورقابته ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع. ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة: {وكفى بالله حسيبًا}..
ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية- في الغالب- إلا التافه القليل. لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرسًا ولا يردون عاديًا! فإذا شريعة الله تجعل الميراث- في أصله- حقًا لذوي القربى جميعًا- حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد- وذلك تمشيًا مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وفي التكافل الإنساني العام.
وحسب قاعدة: الغنم بالغرم.. فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح فعدلٌ إذن أن يرثه- إن ترك مالًا- بحسب درجة قرابته وتكليفه به. والإسلام نظام متكامل متناسق. ويبدو تكامله وتناسقه واضحًا في توزيع الحقوق والواجبات..
هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة.. وقد نسمع هنا وهناك لغطًا حول مبدأ الإرث لا يثيره إلا التطاول على الله سبحانه مع الجهل بطبيعة الإنسان وملابسات حياته الواقعية!
إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي يضع حدًا لهذا اللغط على الإطلاق..
إن قاعدة هذا النظام هي التكافل.. ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية. هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثًا في الفطرة إنما خلقها لتؤدي دورًا أساسيًا في حياة الإنسان.
ولما كانت روابط الأسرة- القريبة والبعيدة- روابط فطرية حقيقية؛ لم يصطنعها جيل من الأجيال؛ ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام.. لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام. وجعل الإرث مظهرًا من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة. فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.
فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة لتكملها وتقويها. فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة جهود الأسرة وجهود الجماعة المحلية المحدودة.. وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة.. أولًا لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نموًا طبيعيًا غير مصطنع- فضلًا على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث- أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشئ آثارًا طبيعية تلائم الفطرة.. فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته- وبخاصة ذريته- يحفزه إلى مضاعفة الجهد فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر. لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة. فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج..
وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهدًا- كما يقال!- فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجًا وذاك ذا مال.
ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عندما تحتاج. تمشيًا مع قاعدة التكافل العام.
ثم إن العلاقة بين المورث والوارث- وبخاصة الذرية- ليست مقصورة على المال. فإذا نحن قطعنا وراثة المال فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى والوراثات الأخرى بينهما.
إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده. إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة والانحراف والاستقامة والحسن والقبح والذكاء والغباء.. إلخ. وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم ولا تتركهم من عقابيلها أبدًا. فمن العدل إذن أن يورثوهم المال. وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء. ولا تملك الدولة- بكل وسائلها- أن تعفيهم من هذه الوراثات.